د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
ماذا تعرف عن خدعة الله؟
من الآيات العجيبة في كتاب الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، ووجه العجب في حلم الله تعالى الذي لا يُعَجِّل العقوبة للمنافقين، ولكن يصبر عليهم، لا أقول في الحياة الدنيا فقط، ولكن في الآخرة كذلك، فيستدرجهم يوم القيامة استدراجًا عجيبًا على مهل، وهو في الواقع نوع من العذاب لهم.
النفاق نوعان: نفاق أكبر؛ وهو الذي يبطن الكفر ويُظْهِر الإسلام، ونفاق أصغر؛ وهو الرياء، أو العمل من أجل الناس، وأسوأ البشر عند الله تعالى المنافقون نفاقًا أكبر، وهم أشدُّ سوءًا من الكافرين بالله؛ لأن ضررهم أكبر على المؤمنين بتستُّرهم خلف ستار الإيمان بالله، وجعل لهم العذاب الأكبر يوم القيامة؛ فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].
والخداع الذي أقصده في قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} يشمل إعطاءهم الانطباع بالنجاة يوم القيامة، وإيهامهم أنهم داخلون في زمرة المؤمنين كما يُبْدِي ظاهرُهم، ثم يكشف أوراقهم تدريجيًّا بشكل مؤلم، وهذا لشدة عذابهم.
قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44، 45].
اختلاط المؤمنين والمنافقين يوم القيامة:
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ القَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا.."[1]، إذن في مرحلة معينة من مراحل يوم القيامة يجتمع كل من كان ظاهره مسلمًا، ثم ستأتي مرحلة يُفَرَّق بها بين المؤمن الصادق والمنافق.
أولًا: عن طريق كشف الساق والدعوة للسجود، فلا يستطيع المنافق السجود
هذه هي الصدمة الأولى: جاء في حديث مسلم: ".. وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ.."[2].
ثانيًا: بقاء المنافق مع المؤمنين على الرغم من عدم قدرته على السجود: أي تكون بداخله مشاعر احتمال النجاة، وهذا أصعب في العذاب، فإن قتل الأمل بعد وجوده أشدُّ من انقطاع الأمل من البداية! يؤمر الجميع بالذهاب إلى الصراط للمرور على جهنم، وتكون الظلمة شديدة فيعطي الله نورًا للمسلمين: مؤمنهم ومنافقهم
.روى مسلم عن أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يُسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ، فَقَالَ (الحديث هكذا موقوف على جابر بن عبد الله، وله حكم المرفوع، كما أنه مرفوع بالفعل عند ابن أبي خيثمة): نَجِيءُ[3] نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا، انْظُرْ أَيْ ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ؟ قَالَ: فَتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا، وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ، الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ تَنْظُرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبَّنَا، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ.
الصدمة الثانية: (سلب النور)
وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ، مُنَافِقًا أَوْ مُؤْمِنًا، نُورًا، ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ، وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ.."[4].
الصدمة الثالثة: (البحث عن النور)
في هذا الموقف الحرج يسأل المنافقون المؤمنين نورًا ليكملوا الطريق:
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} قال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: "وَهِيَ خُدْعَةُ اللهِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْمُنَافِقُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]".
الصدمة الرابعة: (السور)
{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 13 - 15].
هذا السور الذي ضُرِب والباب الذي فيه يحتاجان لحديث خاص، ونسأل الله أن يحفظنا من النفاق وأهله، وهذا التصوير يشفي صدور المؤمنين، ويعوِّضهم عن معاناتهم من المنافقين في الدنيا[5].
[1] البخاري: كتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم (6204).
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (183).
[3] تصحيف وصوابه "نجئ نحن يوم القيامة على كَوْمٍ"، أي على تلٍّ مرتفع
[4] مسلم: كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها ( 191).
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك